مايضُاف جديداً على موقع العلامة / ربيع بن هادي عمير المدخلي - حفظه الله -
قال الشاطبي الإمامـ - رحمه الله - ( كل من ابتدع في دين الله فهو ذليل حقير بسبب بدعته ، و إن ظهر لبادئ الأمر في عزّه و جبروته ، فهم في أنفسهم أذلاء ، ألا ترى أحوال المبتدعة في زمان التابعين ، و فيما بعد ذلك ؟! حتى تلبسوا بالسلاطين و لاذوا بأهل الأرض ، و من لم يقدر على ذلك استخفى ببدعته ، و هرب بها عن مخالطة الجمهور ) , [ الاعتصام ، للشاطبي : 1/126 ].
الاثنين، 22 أكتوبر 2012
تبشير الإخوة بثبوت سُنِّية صوم أيام عشر ذي الحجة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد الأمين، وعلى آله وأصحابه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد، أيها الإخوة الفضلاء النبلاء ـ أكرمكم الله بالإكثار من طاعته وأسعدكم برضوانه ـ:
فهذا جزء لطيف في:
"إثبات سُنِّية صوم أيام العشر من شهر ذي الحجة المُحرَّم".
وسبب
كتابة هذا الجزء وطرحه بين يدى القراء ـ سددهم الله ـ هو سماعي من بعض
الناس اليوم عدم استحباب صيام هذه الأيام أو كراهته أو أنه بدعة.
وأسأل الله الكريم أن ينفع به الكاتب والقارئ والناشر، إنه سميع الدعاء.
وسوف يكون الكلام عن هذه المسألة في سبع وقفات، ليسهل ضبطها والإلمام بها، فدونكم هي:
الوقفة الأولى / عن المراد بالأيام العشر من ذي الحجة التي يُسن صيامها.
قال النووي ـ رحمه الله ـ في "شرح صحيح مسلم"(8/ 320رقم:1176):
قال العلماء: والمراد بالعشر هنا الأيام التسعة من أول ذي الحجة، قالوا: وهذا مما يُتأول.اهـ
وقال ابن رجب الحنبلي ـ رحمه الله ـ في كتابه "لطائف المعارف"(ص: 279):
وهذا كما يقال: صام عشر ذي الحجة، وإنما صام منه تسعة أيام، ولهذا كان ابن سيرين يكره أن يقال: صام عشر ذي الحجة، وقال: (( إنما يقال: صام التسع ))
ومن لم يكره وهم الجمهور، فقد يقولون: الصيام المضاف إلى العشر هو صيام ما
يمكن منه، وهو ما عدا يوم النحر، ويطلق على ذلك العشر، لأنه أكثر
العشر.اهـ
الوقفة الثانية / عن مستند سُنِّية صيام أيام عشر ذي الحجة.
يدل على الترغيب في صيام أيام عشر ذي الحجة، وأنه سُنَّة محمودة يستحب العمل بها، أمران:
الأول:
ما أخرجه البخاري ـ رحمه الله ـ في "صحيحه"(969) واللفظ له، وأحمد (و3139
و3228) وأبو داود (2438) وابن ماجه (1727) عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( مَا
العَمَلُ فِي أَيَّامٍ أَفْضَلَ مِنْهَا فِي هَذِهِ؟ قَالُوا: وَلاَ
الجِهَادُ؟ قَالَ: وَلاَ الجِهَادُ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ يُخَاطِرُ
بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ )).
وأخرجه الترمذي ـ رحمه الله ـ في "سننه"(757) بلفظ: ((
مَا مِنْ أَيَّامٍ العَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ
مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ العَشْرِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَا
الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَلَا الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِلَّا رَجُلٌ
خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ )).
وقال عقبه: حديث ابن عباس حديث حسن صحيح غريب.اهـ
وأخرجه الدارمي ـ رحمه الله ـ في "سننه"(1815) بلفظ: ((
مَا مِنْ عَمَلٍ أَزْكَى عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَا أَعْظَمَ
أَجْرًا مِنْ خَيْرٍ يَعْمَلُهُ فِي عَشْرِ الْأَضْحَى، قِيلَ: وَلَا
الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ: وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ
يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ )).
وإسناده حسن.
وفي لفظ آخر(1814): ((
مَا الْعَمَلُ، فِي أَيَّامٍ أَفْضَلَ مِنَ الْعَمَلِ فِي عَشْرِ ذِي
الْحِجَّةِ، قِيلَ: وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: وَلَا
الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ
وَمَالِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ )).
وإسناده صحيح.
وممن صحح الحديث مع مسلم والترمذي ـ رحمهما الله ـ أيضاً:
ابن
خزيمة وابن حبان وأبو نعيم الأصفهاني والبغوي وابن قدامة المقدسي والنووي
وابن قيم الجوزية وابن كثير وأبو زرعة العراقي والشوكاني وابن باز
والألباني وابن عثيمين.
ووجه الاستدلال من هذا الحديث:
أن العمل الصالح المذكور فيه عام، فيدخل فيه الصيام، لأنه من الأعمال الصالحة، بل من أفضلها وآكدها.
الثاني: ما أخرجه عبد الرزاق ـ رحمه الله ـ في "مصنفه"(4/257رقم:7715):
عن الثوري عن عثمان بن موهب قال: ((
سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ وَسَأَلَهُ رَجُلٌ قَالَ: إِنَّ عَلِيَّ
أَيَّامًا مِنْ رَمَضَانَ، أَفَأَصُومُ الْعَشْرَ تَطَوُّعًا؟ قَالَ: لَا، [ بل ] ابْدَأْ بِحَقِّ اللَّهِ، ثُمَّ تَطَوَّعْ بَعْدُ مَا شِئْتَ )).
وإسناده صحيح.
وأخرجه البيهقي ـ رحمه الله ـ في "سننه"(8395).
تنبيه:
ما بين القوسين من عند البيهقي، وفي المطبوع من "المصنف": [ ولم ] وهو خطأ، والله أعلم.
ووجه الاستدلال من هذا الأثر:
أن أبا هريرة ـ رضي الله عنه ـ لم ينكر على الرجل التطوع بصيام العشر، بل أقره على ذلك إذا قضى ما بقي عليه من شهر رمضان.
وهذا يدل على أن صيامها معروف ومشهور في عهد السلف الصالح، وعلى رأسهم الصحابة.
الوقفة الثالثة / عن تبويبات وأقوال أهل العلم عند ذكر حديث ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ: (( مَا مِنْ أَيَّامٍ العَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ العَشْرِ )).
أولاً: بوب أبو داود السجستاني ـ رحمه الله ـ في "سننه"(2438)على هذا الحديث، وحديث آخر معه:
باب في صوم العشر.
ثانياً: بوب ابن ماجه القزويني ـ رحمه الله ـ في "سننه"(1727) على هذا الحديث وحديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ:
باب صيام العشر.
ثالثاً: قال إسحاق بن منصور الكوسج ـ رحمه الله ـ في "مسائله عن الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه"(703):
قلت: من قال: لا يُقضى رمضان في ذي الحجة؟.
قال: أي شيء يَكره من ذلك؟.
قال إسحاق: هو جائز، ومن كرهه أراد أن يصومه تطوعاً، لما يستحب العمل فيه، وهذه رخصة، لأنه حرَّضه على التطوع، ويؤخر قضاء الفرض.اهـ
ومعنى كلام إسحاق بن راهويه ـ رحمه الله ـ:
أن
من كره من السلف الصالح قضاء ما بقي من أيام شهر رمضان في أيام عشر ذي
الحجة إنما هو لأجل أن ذلك يُفوِّت التطوع بصيامها، لأنها أيام يستحب فيها
الإكثار من الأعمال الصالحة.
وقال ابن رجب الحنبلي ـ رحمه الله ـ في كتابه "لطائف المعارف"(ص:372-373):
وقد
اختلف عمر وعلي ـ رضي الله عنهما ـ في قضاء رمضان في عشر ذي الحجة، فكان
عمر يستحبه لفضل أيامه، فيكون قضاء رمضان فيه أفضل من غيره، وهذا يدل على
مضاعفة الفرض فيه على النفل.
وكان
علي ينهى عنه، وعن أحمد في ذلك روايتان، وقد عُلل قول علي: بأن القضاء فيه
يفوت به فضل صيامه تطوعا، وبهذا علله الإمام أحمد، وغيره.اهـ
وقال ابن كثير ـ رحمه الله ـ في "مسند الفاروق"(1/281):
أثر في القضاء في عشر ذي الحجة:
قال أبو عبيد: حدثني ابن مهدى عن سفيان عن الاسود بن قيس عن أبيه عن عمر: (( أنه كان يستحب قضاء رمضان في عشر ذي الحجة، وقال: وما من أيام أقضى فيها رمضان أحب الى منها )).
قال
أبو عبيد: نرى أنه كان يستحبه لأنه كان لا يحب أن يفوت الرجل صيام العشر،
ويستحبه نافلة، فإذا كان عليه شيء من رمضان كره أن ينتقل وعليه من الفريضة
شيء، فيقول: يقضيها في العشر، فلا يكون يبدأ بغير الفريضة، فيجتمع له
الأمران.اهـ
رابعاً: قال أبو بكر الأثرم ـ رحمه الله ـ في كتابه "ناسخ الحديث ومنسوخه"(ص:153 بعد رقم:327):
فالأمر في هذا الباب على أن صوم يوم عرفة وسائر العشر قبل الأضحى حسن، وأفضلها يوم عرفة.اهـ
خامساً: قال الطحاوي ـ رحمه الله ـ في كتابه "مشكل الآثار"(7/ 419 رقم:2973):
وإن
كان الصوم فيها له من الفضل ما له، مما قد ذكر في هذه الآثار التي قد
ذكرناها فيه، وليس ذلك بمانع أحداً من الميل إلى الصوم فيها، لا سيما من
قدر على جمع الصوم مع غيره من الأعمال التي يتقرب بها إلى الله عز وجل
سواه.اهـ
سادساً: قال ابن حزم الظاهري ـ رحمه الله ـ في كتابه "المحلى"(4/ 440 مسألة رقم:794):
ونستحب صيام أيام العشر من ذي الحجة قبل النحر، لما حدثناه .... عن ابن عباس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم:
(( مَا مِنْ أَيَّامٍ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ فِيهِمْ الْعَمَلُ - أَوْ
أَفْضَلُ فِيهِنَّ الْعَمَلُ - مِنْ أَيَّامِ الْعَشْرِ قِيلَ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ وَلَا الْجِهَادُ؟ قَالَ: وَلَا الْجِهَادُ إلَّا رَجُلٌ خَرَجَ
بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ )).
قال أبو محمد: هو عشر ذي الحجة, والصوم عمل بِر، فصوم عرفة يدخل في هذا أيضاً.اهـ
سابعاً: قال موفق الدين ابن قدامة المقدسي ـ رحمه الله ـ في كتابه "الكافي في فقه الإمام المبجل أحمد بن حنبل"(1/ 362):
ويستحب صيام عشر ذي الحجة، لِما روى ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( مَا مِنْ أَيَّامٍ العَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ... )).اهـ
ثامناً: قال أبو العباس القرطبي المالكي ـ رحمه الله ـ في كتابه "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم"(3/ 253-254 رقم:1046):
وقول عائشة: (( مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَائِمًا فِي الْعَشْرِ قَطُّ ))
تعني به: عشر ذي الحجة، ولا يفهم منه: أن صيامه مكروه، بل أعمال الطاعات
فيه أفضل منها في غيره، بدليل ما رواه الترمذي من حديث ابن عباس قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( مَا مِنْ
أَيَّامٍ العَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ
الأَيَّامِ العَشْرِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَا الجِهَادُ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: وَلَا الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ
بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ )) قال: هذا حديث حسن صحيح.اهـ
تاسعاً: قال النووي الشافعي ـ رحمه الله ـ في "شرح صحيح مسلم"(8/ 320رقم:1176):
فليس
في صوم هذه التسعة كراهة، بل هي مستحبة استحباباً شديداً لاسيما التاسع
منها، وهو يوم عرفة، وقد سبقت الأحاديث في فضله، وثبت في "صحيح البخاري" أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( ما من أيام العمل الصالح فيها أفضل منه في هذه )) يعنى: العشر الأوائل من ذي الحجة.اهـ
وبوب على هذا الحديث في كتابه "رياض الصالحين"(رقم:1249) فقال:
باب فضل الصوم وغيره في العشر الأول من ذي الحجة.اهـ
عاشراً:
بوب محب الدين الطبري ـ رحمه الله ـ في كتابه "غاية الإحكام في أحاديث
الأحكام"(4/ 472 رقم:8406) على حديث ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ وأمثاله:
ذكر صوم عشر ذي الحجة.
وقال أيضاً (4/ 473):
وقد صحت أحاديث الترغيب في صومه.اهـ
حادي عشر: قال ابن رجب الحنبلي ـ رحمه الله ـ في كتابه "فتح الباري"(6/ 115 رقم:969):
وهذا الحديث نص في أن العمل المفضول يصير فاضلاً إذا وقع في زمان فاضل، حتى يصير أفضل من غيره من الأعمال الفاضلة، لفضل زمانه.
وفي
أن العمل في عشر ذي الحجة أفضل من جميع الأعمال الفاضلة في غيره، ولا
يستثنى من ذلك سوى أفضل أنواع الجهاد، وهو أن يخرج الرجل بنفسه وماله، ثم
لا يرجع منهما بشيء، فهذا الجهاد بخصوص يفضل على العمل في العشر، وأما سائر
أنواع الجهاد مع سائر الأعمال، فإن العمل في عشر ذي الحجة أفضل منها.اهـ
وقال أيضاً (6/ 119):
وحينئذ فصيام عشر رمضان أفضل من صيام عشر ذي الحجة، لأن الفرض أفضل من النفل.
وأما نوافل عشر ذي الحجة فأفضل من نوافل عشر رمضان، وكذلك فرائض عشر ذي الحجة تضاعف أكثر من مضاعفة فرائض غيره.
وقد
كان عمر يستحب قضاء رمضان في عشر ذي الحجة، لفضل أيامه، وخالفه في ذلك
علي، وعَلَّل قوله باستحباب تفريغ أيامه للتطوع، وبذلك علله أحمد
وإسحاق.اهـ
وقال في كتابه "لطائف المعارف"(ص: 365-366):
وقد
دل هذا الحديث على أن العمل في أيامه أحب إلى الله من العمل في أيام
الدنيا من غير استثناء شيء منها، وإذا كان أحب إلى الله فهو أفضل عنده.اهـ
وقال أيضاً (ص: 367):
وقد دل حديث ابن عباس على مضاعفة جميع الأعمال الصالحة في العشر من غير استثناء شيء منها.اهـ
وقال أيضاً (ص:51):
وهذا
الحديث صريح في أن أفضل ما تُطوع به من الصيام بعد رمضان صوم شهر الله
المحرم، وقد يحتمل أن يراد أنه أفضل شهر تطوع بصيامه كاملاً بعد رمضان.
فأما بعض التطوع ببعض شهر فقد يكون أفضل من بعض أيامه كصيام يوم عرفه أو عشر ذي الحجة أو ستة أيام من شوال، ونحو ذلك.اهـ
وقال أيضاً (ص:361):
وسيأتي في وظائف ذي الحجة ذكر فضل صيام عشر ذي الحجة ـ إن شاء الله تعالى ـ.اهـ
ثاني عشر: قال ابن حجر العسقلاني الشافعي ـ رحمه الله ـ في كتابه "فتح الباري"(2/ 534 رقم:969):
واستدل
به على فضل صيام عشر ذي الحجة، لا اندراج الصوم في العمل، واستشكل بتحريم
الصوم يوم العيد، وأجيب بأنه محمول على الغالب، ...، والذي يظهر أن السبب
في امتياز عشر ذي الحجة لمكان اجتماع أمهات العبادة فيه، وهي: الصلاة
والصيام والصدقة والحج، ولا يتأتى ذلك في غيره.اهـ
ثالث عشر: قال الشوكاني ـ رحمه الله ـ في كتابه "نيل الأوطار"(4/239):
وقد تقدم في كتاب العيدين أحاديث تدل على فضيلة العمل في عشر ذي الحجة على العموم، والصوم مندرج تحتها.اهـ
وقال أيضاً:
على أنه قد ثبت من قوله ما يدل على مشروعية صومها كما في حديث الباب.اهـ
وقال في كتابه "قطر الولي على حديث الولي"(ص:373):
ومن نوافل الصيام المؤكدة: صوم عشر ذي الحجة، فقد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (( مَا من أَيَّام الْعَمَل الصَّالح فِيهَا أحب إِلَى الله عز وَجل من هَذِه الْأَيَّام ...)).اهـ
رابع عشر: قال عبد العزيز بن عبد الله بن باز ـ رحمه الله ـ كما في "مجموع فتاويه"(15/ 418ـ419) حين سُئل هذا السؤال:
"ما رأي سماحتكم في رأي من يقول صيام عشر ذي الحجة بدعة؟":
هذا جاهل يعلم، فالرسول صلى الله عليه وسلم حضَّ على العمل الصالح فيها، والصيام من العمل الصالح، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((
ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر، قالوا:
يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا
رجل خرج بنفسه وماله ولم يرجع من ذلك بشيء )) رواه البخاري في الصحيح.اهـ
وقال أيضاً (15/ 418):
وقد
دل على فضل العمل الصالح في أيام العشر حديث ابن عباس المخرج في "صحيح
البخاري"، وصومها من العمل الصالح، فيتضح من ذلك استحباب صومها.اهـ
وقال أيضاً كما في "الدرر البهية من الفوائد البازية"(1/ 137رقم:754):
ولكن حديث ابن عباس في الباب الذي بعده يدل على مشروعية صيام هذه الأيام.اهـ
وقال أيضاً (1/ 91رقم:2438):
وهذا الحديث يعم الصيام والقراءة والتكبير.اهـ
خامس عشر: قال محمد بن صالح بن عثيمين ـ رحمه الله ـ كما في "اللقاء الشهري"(رقم:26):
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: (( ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر - أي: عشر ذي الحجة- قالوا: يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء )) وهذا
الحديث يدل على أنه ينبغي لنا أن نكثر من الأعمال الصالحة في عشر ذي
الحجة،... ونصوم أيام العشر، لأن الصيام من الأعمال الصالحة، وحتى لو لم
يرد فيه حديث بخصوصه فهو داخل في العموم، لأنه عمل صالح، فنصوم هذه الأيام
التسعة، لأن العاشر هو يوم العيد ولا يصام، ويتأكد الصوم يوم عرفة إلا
للحجاج.اهـ
وقال أيضاً كما في "شرح رياض الصالحين"(5/ 303):
هذه
الأبواب الثلاثة التي عقدها النووي في كتابه "رياض الصالحين" في بيان أيام
يسن صيامها، فمنها: مما يسن صيامه أيام العشر عشر ذي الحجة الأول، فإن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام )) يعني: أيام العشر.
وقوله: (( العمل الصالح ))
يشمل الصلاة والصدقة والصيام والذكر والتكبير وقراءة القرآن وبر الوالدين
وصلة الأرحام والإحسان إلى الخلق وحسن الجوار وغير ذلك.. ففي هذا دليل على
فضيلة العمل الصالح في أيام العشر الأول من شهر ذي الحجة، من صيام
وغيره.اهـ
وقال أيضاً كما في "فتاوى نور على الدرب"(ص:38):
لكن صيام العشر، أعني: عشر ذي الحجة الأولى سُنة رَغَّب فيها النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال:
(( ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر،
قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل
خرج بنفسه وماله ولم يرجع من ذلك بشيء )) ولا أحد يشك في أن الصيام من الأعمال الصالحة، بل هو من أفضل الأعمال، حتى إن الله تعالى أختصه لنفسه في قوله في الحديث القدسي: (( كل عمل ابن آدم له الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به )).اهـ
سادس عشر: قال حافظ بن أحمد الحكمي ـ رحمه الله ـ في "السبل السوية لفقه السنن المروية"(3/ 202ـ مع الأفنان الندية):
يشرع صوم الست من شوال = وعشر ذي الحجة باستكمال.
وقال زيد بن هادي المدخلي ـ سلمه الله ـ شارحاً (3/ 203-204) للشطر الثاني من هذا البيت:
أي:
من الأيام الفاضلة التي يستحب أن يكثر فيها المسلم من أعمال الخير، ومن
جملتها الصوم تطوعاً: عشر ذي الحجة، فقد أتى الترغيب في العمل الصالح فيها
عموماً، وفي صيام يوم التاسع منها لمن لم يكن بعرفة، وما في ذلك من الأجر
والثواب.
فقد روى الجماعة إلا مسلماً والنسائي عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( مَا من أَيَّام الْعَمَل الصَّالح فِيهَا أحب إِلَى الله عز وَجل من هَذِه الْأَيَّام ... )).
قلت: ومن جملة الأعمال الصالحة الصوم.اهـ
سابع عشر: قال محمد علي آدم الإتيوبي ـ سلمه الله ـ في كتابه "البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج"(22/ 41 رقم:1176):
والحاصل
أن قول عائشة ـ رضي الله عنها ـ هذا لا ينافي استحباب صوم تسع ذي الحجة،
ولا سيما اليوم التاسع لغير الحاج، للأدلة الكثيرة على ذلك:
ومنها: ما أخرجه البخاري من حديث ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ مرفوعاً: (( ما العمل في أيام العشر أفضل من العمل في هذه ...)).اهـ
الوقفة الرابعة / عن أقوال المذاهب الفقهية المشهورة وغيرهم في استحباب صيام هذه الأيام.
أولاً:المذهب الحنفي.
1- قال علاء الدين الكاساني ـ رحمه الله ـ في كتابه "بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع"(2/108):
ولا
بأس بقضاء رمضان في عشر ذي الحجة، وهو مذهب عمر وعامة الصحابة ـ رضي الله
عنهم ـ إلا شيئاً حكي عن علي ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: يكره فيها، لما روي
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن قضاء رمضان في العشر، والصحيح قول
العامة لقوله تعالى: { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ }
مطلقاً من غير فصل، ولأنها وقت يستحب فيها الصوم، فكان القضاء فيها أولى
من القضاء في غيرها، وما روي من الحديث غريب في حدِّ الأحاديث، فلا يجوز
تقييد مطلق الكتاب، وتخصيصه بمثله، أو نحمله على الندب في حق من اعتاد
التنفل بالصوم في هذه الأيام، فالأفضل في حقه أن يقضي في غيرها لئلا تفوته
فضيلة صوم هذه الأيام، ويقضي صوم رمضان في وقت آخر، والله أعلم بالصواب.اهـ
2- وبنحوه في كتاب "المبسوط"(3/ 92) لشمس الدين السرخسي ـ رحمه الله ـ.
3- جاء في "الفتاوى الهندية"(1/ 201):
ويستحب صوم تسعة أيام من أول ذي الحجة كذا في "السراج الوهاج".اهـ
ثانياً:المذهب المالكي.
1- قال ابن رشد القرطبي في كتابه " المقدمات الممهدات"(1/ 242):
وصيام عشر ذي الحجة ومنى وعرفة مرغب فيه.اهـ
2- جاء في "حاشية الصاوي على الشرح الصغير"(1/ 691):
(و) ندب (صوم) يوم (عرفة لغير حاج) وكره لحاج، أي لأن الفطر يقويه على الوقوف بها.
(و) ندب صوم (الثمانية) الأيام (قبله) أي عرفة.اهـ
3- جاء في "شرح مختصر خليل" للخرشي (3/ 16-17):
(ص) وصوم يوم عرفة إن لم يحج وعشر ذي الحجة.
(ش):
يريد أن صوم يوم عرفة مستحب في حق غير الحاج، وأما هو فيستحب فطره ليتقوى
على الدعاء، وقد أفطر النبي صلى الله عليه وسلم في الحج، وأن صيام عشر ذي
الحجة مستحب.اهـ
4- جاء في كتاب "منح الجليل شرح مختصر خليل"(2/ 119):
(و) ندب صوم باقي غالب (عشر ذي الحجة).اهـ
ثالثاً:المذهب الشافعي.
1- قال النووي ـ رحمه الله ـ في كتابه "روضة الطالبين"(2/ 388):
ومن المسنون، صوم عشر ذي الحجة، غير العيد.اهـ
2- وقال أبو بكر الحصني ـ رحمه الله ـ في كتابه " كفاية الأخيار في حل غاية الاختصار"(1/ 207):
ويستحب صوم عشر ذي الحجة.اهـ
3- جاء في كتاب "غاية البيان شرح زبد ابن رسلان"(1/ 158):
يسن صوم عشر ذي الحجة غير العيد (وست شوال) بعد يوم العيد.اهـ
رابعاً:المذهب الحنبلي.
1- قال المرداوي ـ رحمه الله ـ في كتابه "الإنصاف"(3/ 345):
قوله: "ويستحب صوم عشر ذي الحجة".
بلا نزاع، وأفضله يوم التاسع، وهو يوم عرفة، ثم يوم الثامن، وهو يوم التروية، وهذا المذهب وعليه الأصحاب.اهـ
2- قال مجد الدين أبو البركات ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في كتابه "المحرر في الفقه"(1/ 231):
ومن السنة إتباع رمضان بست من شوال، وإن أفردت، وصوم عشر ذي الحجة، وآكده يوم التروية وعرفة.اهـ
3- قال ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في "شرح العمدة"(2/553 ـ قسم الصيام):
قال أصحابنا: "ويستحب صوم عشر ذي الحجة".
وفي الحقيقة المعني: صوم تسع ذي الحجة، وآكدها يوم التروية وعرفة.اهـ
خامساً:المذهب الظاهري.
قال ابن حزم ـ رحمه الله ـ في كتابه "المحلى"7/19مسألة رقم:794):
ونستحب صيام أيام العشر من ذي الحجة.اهـ
وأخيراً: قال ابن رجب الحنبلي ـ رحمه الله ـ في كتابه "لطائف المعارف"(ص386:):
وممن
كان يصوم العشر عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهماـ، وقد تقدم عن الحسن
وابن سيرين وقتادة ذكر فضل صيامها، وهو قول أكثر العلماء أو كثير منهم.اهـ
وقال في كتابه "فتح الباري"(6/ 119):
وقد
كان عمر يستحب قضاء رمضان في عشر ذي الحجة، لفضل أيامه، وخالفه في ذلك
علي، وعلل قوله باستحباب تفريغ أيامه للتطوع، وبذلك علله أحمد وإسحاق، وعن
أحمد في ذلك روايتان.اهـ
الوقفة الخامسة / عن الآثار الواردة عن السلف الصالح في مشروعية صيام هذه الأيام.
ومن هذه الآثار:
أولاً: ما نقل عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ.
فقد قال عبد الرزاق ـ رحمه الله ـ في "مصنفه"(4/257رقم:7715):
عن الثوري عن عثمان بن موهب قال: ((
سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ وَسَأَلَهُ رَجُلٌ قَالَ: إِنَّ عَلِيَّ
أَيَّامًا مِنْ رَمَضَانَ، أَفَأَصُومُ الْعَشْرَ تَطَوُّعًا؟ قَالَ: لَا، [ بل] ابْدَأْ بِحَقِّ اللَّهِ، ثُمَّ تَطَوَّعْ بَعْدُ مَا شِئْتَ )).
وإسناده صحيح.
وأخرجه البيهقي ـ رحمه الله ـ في "سننه"(8395).
تنبيه:
ما بين القوسين من عند البيهقي، وفي المطبوع من "المصنف": [ ولم ] وهو خطأ، والله أعلم.
ثانياً: ما نقل عن عبد الله بن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنهما ـ.
فقد قال ابن الجعد ـ رحمه الله ـ في "مسنده"( 2247):
أنا شَريك عن الحُرِّ بن الصَّيَّاح قال: (( جَاوَرْتُ مَعَ ابْنِ عُمَرَ فَرَأَيْتُهُ يَصُومُ الْعَشْرَ )).
وقال إسحاق بن هانئ النيسابوري ـ رحمه الله ـ في "مسائله عن الإمام أحمد"(ص:143 رقم:670):
سمعت أبا عبد الله يقول: حديث وكيع عن شَريك عن الحر بن صَيَّاح: (( رأيت ابن عمر يصوم عاشوراء، ورأيت ابن عمر يصوم العشر بمكة )).
حديث الحر بن صيَّاح حديث منكر، نافع أعلم بحديث ابن عمر منه.اهـ.
ثالثاً: ما نقل عن إبراهيم النخعي وسعيد بن جبير ـ رحمهما الله ـ.
فقد قال عبد الرزاق ـ رحمه الله ـ في "مصنفه"(2/256رقم:7713):
عن الثوري عن حماد، قال: ((
سَأَلْتُ إِبْرَاهِيمَ وَسَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ عَنْ رَجُلٍ عَلَيْهِ
أَيَّامٌ مِنْ رَمَضَانَ أَيَتَطَوَّعُ فِي الْعَشْرِ؟ قَالَا: يَبْدَأُ
بِالْفَرِيضَةِ )).
وسنده صحيح.
رابعاً: ما نقل عن عطاء بن أبي رباح ـ رحمه الله ـ.
فقد قال عبد الرزاق ـ رحمه الله ـ في "مصنفه"(2/256رقم:7713):
عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: ((
كُرِهَ أَنْ يَتَطَوَّعَ الرَّجُلُ بِصِيَامٍ فِي الْعَشْرِ، وَعَلَيْهِ
صِيَامٌ وَاجِبٌ قَالَ: لَا، وَلَكِنْ صُمِ الْعَشْرَ، وَاجْعَلْهَا
قَضَاءً )).
وإسناده صحيح.
خامساً: ما نقل عن محمد بن سيرين ـ رحمه الله ـ.
فقد قال ابن أبي شيبة ـ رحمه الله ـ في "مصنفه"(9221):
حدثنا معاذ بن معاذ عن ابن عون، قال: (( كَانَ مُحَمَّدٌ يَصُومُ الْعَشْرَ عَشْرَ ذِي الْحِجَّةِ كُلِّهِ )).
وإسناده صحيح.
سادساً: ما نقل عن الحسن البصري ـ رحمه الله ـ.
فقد قال عبد الرزاق ـ رحمه الله ـ في "مصنفه"(8216):
عن جعفر بن سليمان عن هشام عن الحسن قال: (( صِيَامُ يَوْمٍ مِنَ الْعَشْرِ يَعْدِلُ شَهْرَيْنِ )).
وإسناده حسن إن شاء الله.
وأخرجه من طريقه الطبراني ـ رحمه الله ـ في " فضل عشر ذي الحجة"(25).
وقال ابن أبي شيبة (9287):
حدثنا غُندَر عن سعيد عن قتادة عن الحسن: (( أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يَتَطَوَّعَ بِصِيَامٍ وَعَلَيْهِ قَضَاءٌ مِنْ رَمَضَانَ إِلَّا الْعَشْرَ )).
وإسناده صحيح.
سابعاً: ما نقل عن مجاهد بن جبر وعطاء بن أبي رباح ـ رحمهما الله ـ.
فقد قال ابن أبي شيبة ـ رحمه الله ـ في "مصنفه"(9222):
حدثنا حسين بن علي عن زائدة عن ليث قال: (( كَانَ مُجَاهِدٌ يَصُومُ الْعَشْرَ، قَالَ: وَكَانَ عَطَاءٌ يَتَكَلَّفُهَا )).
وفي سنده ليث، وهو ابن أبي سُليم، وقد قال عنه ابن حجر العسقلاني ـ رحمه الله ـ في كتابه "التقريب"(5685):
صدوق اختلط جداً ولم يتميز حديثه فترك.اهـ
ثامناً: ما نقل عن سعيد بن المسيب ـ رحمه الله ـ.
فقد قال البخاري ـ رحمه الله ـ في "صحيحه"(عند حديث رقم: 1950) جازماً:
وقال سعيد بن المسيب في صوم العشر: (( لاَ يَصْلُحُ حَتَّى يَبْدَأَ بِرَمَضَانَ )).
وقال ابن حجر العسقلاني ـ رحمه الله ـ في كتابه "فتح الباري"(4/ 223 رقم:1950) عقبه:
وظاهر قوله جواز التطوع بالصوم لمن عليه دين من رمضان إلا أن الأولى له أن يصوم الدَّين أولاً، لقوله: (( لا يصلح )) فإنه ظاهر في الإرشاد إلى البُداءة بالأهم والآكد.اهـ
تاسعاً: ما نقل عن الزهري ـ رحمه الله ـ.
فقد قال عبد الرزاق ـ رحمه الله ـ في "مصنفه"(7710):
عن معمر عن الزهري: (( كُرِهَ أَنْ يُقْضَى رَمَضَانُ فِي الْعَشْرِ )) قال معمر: وأخبرني مَن سمع الحسن يقوله.اهـ
وإسناده صحيح.
وقد
تقدم عن الإمام أحمد بن حنبل وأبي عبيد وإسحاق بن راهويه ـ رحمهم الله ـ
وغيرهم أن كراهة من كره قضاء رمضان في العشر إنما هي لأجل أنه يفوت التطوع
بصيامها، لأنه يستحب فيها الإكثار من العمل.
عاشراً: ما نقل عن هشام بن حسان ـ رحمه الله ـ.
فقد قال عبد الرزاق ـ رحمه الله ـ في "مصنفه"(7711):
عن هشام بن حسان أنه: (( كَرِهَ قَضَاءَ رَمَضَانَ فِي الْعَشْرِ )).
وإسناده صحيح.
وهذه الآثار جميعها ظاهرة في أن التطوع بصيام أيام العشر كان معروفاً في عصر الصحابة والتابعين وتابعيهم ـ رضي الله عنهم ورحمهم ـ.
الوقفة السادسة / عن الإجابة على حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ: (( مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَائِمًا فِي الْعَشْرِ قَطُّ )).
وسوف يكون الكلام عن هذا الحديث من جهتين:
الأولى:عن تخريجه ودرجته.
هذا الحديث قد أخرجه مسلم ـ رحمه الله ـ في "صحيحه"(1176) من طريق الأعمش عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ.
إلا أنه اختلف على إبراهيم النخعي في وصله وإرساله، فوصله عنه الأعمش، وأرسله منصور.
وقد اختلف العلماء ـ رحمهم الله ـ في أيهما أثبت في إبراهيم.
فقال ابن رجب الحنبلي ـ رحمه الله ـ في كتابه "شرح علل الترمذي"(1/ 271):
ذكر
علي بن المديني عن يحيى بن سعيد قال: "ما أحد أثبت عن مجاهد وإبراهيم من
منصور، قلت ليحيى: منصور أحسن حديثاً عن مجاهد من أبي نجيح؟ قال: نعم،
وأثبت، وقال: منصور أثبت الناس".
وقال أحمد حدثني يحيى قال: قال سفيان: "كنت إذا حدثت الأعمش عن بعض أصحاب إبراهيم قال، فإذا قلت: منصور سكت".
وقال ابن المديني عن يحيى عن سفيان قال: "كنت لا أحدث الأعمش عن أحد إلا ردَّه، فإذا قلت: منصور سكت".
وذكر ابن أبي خيثمة عن يحيى بن معين قال: "لم يكن أحد أعلم بحديث منصور من سفيان الثوري"
ورجحت طائفة الأعمش على منصور في حفظ إسناد حديث النخعي.
قال وكيع: "الأعمش أحفظ لإسناد إبراهيم من منصور".
وقد
ذكره الترمذي في باب التشديد في البول من "كتاب الطهارة"، واستدل به على
ترجيح قول الأعمش في حديث ابن عباس في القبرين: "سمعت مجاهداً يحدث عن
طاووس عن ابن عباس".
وأما منصور فرواه عن مجاهد عن ابن عباس.
وكذلك ذكره أيضاً في "كتاب الصيام " في باب صيام العشر، واستدل به على ترجيح رواية الأعمش عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة: (( مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَائِمًا فِي الْعَشْرِ قَطُّ )) على قول منصور، فإنه أرسله.
ورجحت طائفة الحكم، قال عبد الله بن أحمد: سألت أبي: "من أثبت الناس في إبراهيم؟ قال: الحكم ثم منصور".
وقال
أيضاً: قلت لأبي: أي أصحاب إبراهيم أحب إليك؟ قال: الحكم ثم منصور، ما
أقربهما، ثم قال: كانوا يرون أن عامة حديث أبي معشر إنما هو عن حماد - يعني
ابن أبي سليمان".
وقال حرب عن أحمد: "كان يحيى بن سعيد يقدم منصوراً والحكم على الأعمش".
وقال ابن المديني: قلت ليحيى بن سعيد: "أي أصحاب إبراهيم أحب إليك؟ قال : الحكم ومنصور، قلت: أيهما أحب إليك؟ قال: ما أقربهما".اهـ
وقد ذكر الدارقطني ـ رحمه الله ـ هذا الحديث في "التتبع"(ص:529) وقال عقب سوقه عن لأعمش موصولاً:
وخالفه منصور، رواه عن إبراهيم مرسلاً.اهـ
وقال في "العلل"(15/ 74-75رقم:3847):
يرويه إبراهيم النخعي، واختلف عنه، فرواه الأعمش عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة.
ولم
يختلف عن الأعمش فيه، حدث به عنه: أبو معاوية وحفص بن غياث ويعلى بن عبيد
وزائدة بن قدامة و... بن سليمان والقاسم بن معن وأبو عوانة.
واختلف عن الثوري، فرواه ابن مهدي عن الثوري عن الأعمش كذلك.
وتابعه يزيد بن زريع، واختلف عنه، فرواه حميد المروزي عن يزيد بن زريع عن الثوري عن الأعمش، مثل قول عبد الرحمن بن مهدي.
وحدث
به شيخ من أهل أصبهان، يعرف بعبد الله بن محمد بن النعمان عن محمد بن
منهال الضرير عن يزيد بن زريع عن الثوري عن منصور عن إبراهيم عن الأسود عن
عائشة.
وتابعه معمر بن سهل الأهوازي عن أبي أحمد الزبيري عن الثوري.
والصحيح عن الثوري عن منصور عن إبراهيم قال: حدثت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكذلك رواه أصحاب منصور عن منصور مرسلاً، منهم فضيل بن عياض وجرير.اهـ
وقال ابن أبي حاتم ـ رحمه الله ـ في كتابه "العلل"(781):
وسألت أَبِي وأبا زُرعة: عن حديث رواه أبو عوانة
عن الأعمش، عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة، قالت: (( ما رأيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم صَامَ العَشْرَ مِنْ ذِي الحجَّة قَطُّ )).
ورواه أبو الأحوص، فقال: عن منصور عن إبراهيم عن عائشة؟.
فقالا: هذا خطأٌ.
ورواه الثوري عن الأعمش ومنصور عن إبراهيم، قال حُدِثت عن النبي صلى الله عليه وسلم.اهـ
وقال الترمذي ـ رحمه الله ـ في "سننه"(756):
هكذا روى غير واحد عن الأعمش عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة.
وروى الثوري وغيره هذا الحديث عن منصور عن إبراهيم أن النبي صلى الله عليه وسلم: (( لَمْ يُرَ صَائِمًا فِي العَشْرِ )).
وروى أبو الأحوص عن منصور عن إبراهيم عن عائشة، ولم يذكر فيه: عن الأسود.
وقد اختلفوا على منصور في هذا الحديث.
ورواية الأعمش أصح وأوصل إسناداً.
وسمعت محمد بن أبان يقول: سمعت وكيعاً يقول: الأعمش أحفظ لإسناد إبراهيم من منصور.اهـ
وقال ابن رجب ـ رحمه الله ـ في كتابه "لطائف المعارف"(ص368):
وقد
اختلف جواب الإمام أحمد عن هذا الحديث فأجاب مرة بأنه قد روي خلافه، وذكر
حديث حفصة، وأشار إلى أنه اختلف في إسناد حديث عائشة، فأسنده الأعمش، ورواه
منصور عن إبراهيم مرسلاً.اهـ
وقد صحح الموصول:
مسلم والترمذي وابن خزيمة وابن حبان والبغوي والألباني ومقبل الوادعي وربيع بن هادي المدخلي.
الثانية:عن الجواب عنه.
أجيب عن حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ هذا بعدة أجوبة، ومنها:
أولاً: أن ترك النبي صلى الله عليه وسلم لصيامه قد يكون لعارض من مرض أو سفر أو غيرهما.
وقد
أشار إلى هذا الجواب أبو العباس القرطبي في "المفهم لما أشكل من تلخيص
مسلم"(3/ 253-254 رقم:1046) والنووي في "شرح صحيح مسلم"(8/ 320 رقم:1176)
وابن باز كما في "مجموع فتاويه"(15/ 418) وغيرهم.
ثانياً: أنه يحتمل أن تكون عائشة لم تعلم بصيامه صلى الله عليه وسلم فإنه كان يقسم لتسع نسوة فلعله لم يتفق صيامه في نوبتها.
وقد
أشار إلى هذا الجواب أبو بكر الأثرم في "ناسخ الحديث ومنسوخه"(ص:151 بعد
رقم:323) والنووي في "شرح صحيح مسلم"(8/ 320 رقم:1176) و محب الدين الطبري
في "غاية الإحكام في أحاديث الأحكام"(4/ 472 رقم:8406)، وغيرهم.
ثالثاً: أن تركه صلى الله عليه وسلم قد يكون خشية أن يفرض على أمته، كما نقل عنه في مواضع متعددة.
وقد
أشار إلى هذا الجواب أبو العباس القرطبي في "المفهم لما أشكل من تلخيص
مسلم"(3/ 254 رقم:1046 ) وابن حجر العسقلاني في "فتح الباري"(2/ 534
رقم:969 ).
وأشار إليه قبلهما ابن خزيمة ـ رحمه الله ـ في "صحيحه"( 2103) فقد بوب فقال:
باب ذِكر إفطار النبي صلى الله عليه وسلم في عشر ذي الحجة.
وذكر تحته حديث عائشة، ثم أتبعه بهذا الباب:
باب
ذِكر عِلَّة قد كان النبي صلى الله عليه وسلم يترك لها بعض أعمال التطوع،
وإن كان يحث عليها، وهي خشية أن يفرض عليهم ذلك الفعل مع استحبابه صلى
الله عليه وسلم ما خُفِّف على الناس من الفرائض.
رابعاً: أن تركه صلى الله عليه وسلم قد يكون لأجل أنه إذا صام ضعف عن أن يعمل فيها بما هو أعظم منزلة من الصوم.
وقد أجاب بهذا الجواب الطحاوي ـ رحمه الله ـ في كتابه "شرح مشكل الآثار"(7/ 418-419 رقم:2973).
خامساً: أن عائشة قد تكون أرادت أنه لم يصم العشر كاملاً.
وقد أجاب بهذا الجواب الإمام أحمد بن حنبل ـ رحمه الله ـ كما في "لطائف المعارف"(ص:368).
الوقفة السابعة والأخيرة / عن القول بعدم استحباب أو كراهية أو بدعية صيام عشر ذي الحجة.
قد
بحثت هذه المسألة في كتب كثيرة في الحديث وشروحه وتخريجاته، والفقه
ومختصراته ومطولاته ومذاهبه، والتفسير وأحكام القرآن، والرسائل المتعلقة
بأيام العشر وفضائلها وأحكامها وأحاديثها، وفتاوى العلماء المشهورين من
مختلف العصور والمذاهب، وغيرها.
وعاودت
البحث والمراجعة مرات عديدة، ومع ذلك فلم أقف على أحد ممن تقدم من السلف
الصالح أو ممن بعدهم من الفقهاء المشهورين وأصحابهم أنه قال: بعدم استحباب
صيام هذه الأيام، أو كراهته، أو أنه بدعة، وإنما وجدت إشارة من بعض من أجاب
عن حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ كالطحاوي وابن قيم الجوزية وابن رجب
الحنبلي ـ رحمهم الله ـ قد توحي بوجود خلاف بين العلماء، لكن من دون ذكر
لأحد بعينه، وأخشى أن يكون مرادهم من ذلك هو اختلافهم في صيام النبي صلى
الله عليه وسلم للعشر لا الاختلاف في مشروعية صيام العشر، وقد جاءت إشارتهم
هذه عند الجمع بين الأحاديث الواردة في صيام النبي صلى الله عليه وسلم
للعشر وعدمه، والله تعالى أعلم.
فجزى الله طالب علم نبيه وقف على ما لم أقف عليه فأرشدني وأفادني، إذ المرء يقوى بأخيه وينتفع ويُسدد.
وقد سُئل شيخنا عبد العزيز بن عبد الله بن باز ـ رحمه الله ـ كما في "مجموع فتاويه"(15/ 418) هذا السؤال:
"ما رأي سماحتكم في رأي من يقول صيام عشر ذي الحجة بدعة؟":
فأجاب بقوله: هذا جاهل يعلم....اهـ
وقال محمد بن صالح بن عثيمين ـ رحمه الله ـ كما في "اللقاء الشهري"(رقم:199):
لذلك نحن نأسف لبعض الناس الذين شككوا المسلمين في هذه القضية، وقالوا: إن صيامها ليس بسنة.
سبحان الله! أنا أخشى أن يعاقبهم الله عز وجل يوم القيامة، كيف يقول الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ: (( ما من أيامٍ العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر )) وندع العمل الصالح الذي قال الله تعالى: (( إنه لي وأنا أجزي به )) سبحان الله! لذلك يجب أن نرد هذه الدعوة على أعقابها فتنقلب خاسئة.اهـ
وفي الختام أقول:
ما كان في هذا الجزء من إصابة فبفضل الله تعالى وتوفيقه، وما كان من خطأ فمن نفسي، وأستغفر الله منه، وحسبي أني لم أتقصده.
وكتبه:
عبد القادر بن محمد بن عبد الرحمن الجنيد
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
جزاكـمـ الله خيراً
أخوكمـ (أبوأويس أحمد بن جمال )